كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ، أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْفِي لِوَصْفِ التَّعَمُّدِ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ، لِاكْتِفَاءِ الْمَعْنَى مَعَهُ.
وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ.
فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ وَالْإِحْرَامِ فَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي وَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ؛ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا حَجَّ لَهُ.
وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يَدُلُّك عَلَيْهَا دَلِيلٌ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ الْمَعْنَى، وَسَنَسْتَوْفِي بَقِيَّةَ الْقَوْلِ فِي آخِرِ الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} الْجَزَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْمُقَابِلُ لِلشَّيْءِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ فِي مُقَابِلِ مَا أَتْلَفَ وَبَدَلٌ مِنْهُ؛ وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ «مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ» وَقَدْ تَقَدَّمَ أَمْثَالُهُ قَبْلَ هَذَا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ فِي مُقَابَلَتِهَا ثَوَابًا بِثَوَابٍ وَعِقَابًا بِعِقَابٍ، وَدَرَجَاتٍ وَدَرَكَاتٍ؛ وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: {مِثْلُ} قُرِئَ بِخَفْضِ مِثْلَ عَلَى الْإِضَافَةِ إلَى {فَجَزَاءٌ}.
وَبِرَفْعِهِ وَتَنْوِينِهِ صِفَةً لِلْجَزَاءِ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ رِوَايَةً، صَوَابٌ مَعْنًى، فَإِذَا كَانَ عَلَى الْإِضَافَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَيْرَ الْمِثْلِ؛ إذْ الشَّيْءُ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ الصِّفَةُ بِرَفْعِهِ وَتَنْوِينِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ هُوَ الْجَزَاءَ بِعَيْنِهِ، لِوُجُوبِ كَوْنِ الصِّفَةِ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ؛ وَسَتَرَى ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ مَشْرُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ النَّعَمِ} قَدْ بَيَّنَّا فِي «مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ» دَرَجَاتِ حَرْفِ مِنْ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا بَيَانُ الْجِنْسِ، كَقَوْلِك: خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَقَدَّمْنَا قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ السَّرَّاجِ فِي شَرْحِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ الَّذِي أَوْقَفَنَا عَلَيْهِ شَيْخُ السُّنَّةِ فِي وَقْتِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَضْرَمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ بِحَالٍ، وَلَا فِي مَوْضِعٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّبْعِيضُ فِيهَا بِالْقَرِينَةِ، فَجَاءَتْ مُقْتَرِنَةً بِقَوْلِهِ: {مِنْ النَّعَمِ} لِبَيَانِ جِنْسٍ مِثْلِ الْمَقْتُولِ الْمُفْدَى، وَأَنَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ وَهُوَ شَبَهُهُ فِي الْخِلْقَةِ الظَّاهِرَةِ، وَيَكُونُ مِثْلَهُ فِي مَعْنًى، وَهُوَ مَجَازُهُ؛ فَإِذَا أُطْلِقَ الْمِثْلُ اقْتَضَى بِظَاهِرِهِ حَمْلَهُ عَلَى الشَّبَهِ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَعْنَى، لِوُجُوبِ الِابْتِدَاءِ بِالْحَقِيقَةِ فِي مُطْلَقِ الْأَلْفَاظِ قَبْلَ الْمَجَازِ حَتَّى يَقْتَضِيَ الدَّلِيلُ مَا يَقْضِي فِيهِ مِنْ صَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ؛ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ الْخِلْقِيُّ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالْمِثْلِ.
فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْخِلْقَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمِثْلَ حَقِيقَةً هُوَ الْمِثْلُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: {مِنْ النَّعَمِ} فَبَيَّنَ جِنْسَ الْمِثْلِ، وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ بِالنَّعَمِ بِحَالٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَهَذَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إلَى مِثْلِ مِنْ النَّعَمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ سِوَاهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهِ.
وَالْقِيمَةُ الَّتِي يَزْعُمُ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وَاَلَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْهَدْيُ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنْ النَّعَمِ؛ فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا.
فَإِنْ قِيلَ: الْقِيمَةُ مِثْلٌ شَرْعِيٌّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فِي الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، حَتَّى يُقَالَ الْقِيمَةُ مِثْلٌ لِلْعَبْدِ، وَلَا يَجْعَلُ فِي الْإِتْلَافِ مِثْلَهُ عَبْدًا يَغْرَمُ فِيهِ، وَأَوْجَبْنَا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي الْمُتْلِفَاتِ الْمِثْلَ خِلْقَةً؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَالطَّعَامِ وَالدُّهْنَ كَالدُّهْنِ؛ وَلَمْ يُوجَبْ فِي الْعَبْدِ عَبْدٌ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْخِلْقَةَ لَمْ تَقُمْ بِالْمِثْلِيَّةِ، فَكَيْفَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَدَنَةَ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ.
قُلْنَا: هَذَا مَزْلَقٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهِ قَدَمُ النَّاظِرِ قَلِيلًا، وَلَا يَطِيشَ حُلْمُهُ، فَاسْمَعْ مَا نَقُولُ، فَلَا خَفَاءَ بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَيْسَ يُعَارِضُهُ الْآنَ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ أَنَّ النَّعَامَةَ لَا تُمَاثِلُهَا الْبَدَنَةُ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَوْا بِهَا فِيهَا، وَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَفْهَمُ، وَبِالْمِثْلِ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ وَالْمَعْنَى أَعْلَمُ، فَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ سِوَاهُ إلَّا وَهَمَ، وَلَا يَتَّهِمُهُمْ فِي قُصُورِ النَّظَرِ، إلَّا مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ.
وَالدَّقِيقَةُ فِيهِ أَنَّ مُرَاعَاةَ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ شَبَهٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ التَّوَفُّرِ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّبَهِ الْمَعْنَوِيِّ؛ هَذَا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ فِي مَطْرَحِ النَّظَرِ إلَّا نَافِذُ الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَوَّمُوا النَّعَامَةَ بِدَرَاهِمَ، ثُمَّ قَوَّمُوا الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ.
قُلْنَا: هَذَا جَهْلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَرْدَ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ يُبْطِلُ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ.
الثَّانِي: أَنَّ قِيمَةَ النَّعَامَةِ لَمْ تُسَاوِ قَطُّ قِيمَةَ الْبَدَنَةِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ، لَا مُتَقَدِّمٍ وَلَا مُتَأَخِّرٍ، عُلِمَ ذَلِكَ ضَرُورَةً وَعَادَةً، فَلَا يَنْطِقُ بِمِثْلِ هَذَا إلَّا مُتَسَاخِفٌ بِالنَّظَرِ.
وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمِثْلِيَّةُ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَيَوَانِ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ مُعْتَبَرًا، فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعُدُولِ وَالْحُكْمِ مَا يُشْكَلُ الْحَالُ فِيهِ وَيَضْطَرِبُ وَجْهُ النَّظَرِ عَلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ اعْتِبَارَ الْحُكْمَيْنِ إنَّمَا وَجَبَ فِي حَالِ الْمَصِيدِ مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ، وَمَا لَهُ جِنْسٌ مِمَّا لَا جِنْسَ لَهُ، وَلْيَعْتَبِرْ مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَيَلْحَقُ بِهِ مَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ نَصٌّ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}، فَشَرَكَ بَيْنَهُمَا بِ «أَوْ» فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ، أَوْ مِنْ الطَّعَامِ، أَوْ مِنْ الصِّيَامِ، وَتَقْدِيرُ الْمِثْلِيَّةِ فِي الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ بِالْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ فِي الْمِثْلِ الْأَوَّلِ.
قُلْنَا: هَذَا جَهْلٌ أَوْ تَجَاهُلٌ؛ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} ظَاهِرٌ كَمَا قَدَّمْنَا فِي مِثْلِ الْخِلْقَةِ، وَمَا عَدَاهُ يَمْتَنِعُ فِيهِ مِثْلِيَّةُ الْخِلْقَةِ حِسًّا؛ فَرَجَعَ إلَى مِثْلِيَّةِ الْمَعْنَى حُكْمًا، وَلَيْسَ إذَا عُدِمَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ فِي مَوْضِعٍ وَيَرْجِعُ إلَى بَدَلِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى بَدَلِهِ مَعَ وُجُودِهِ.
تَكْمِلَةٌ: وَمَنْ يَعْجَبُ فَعَجَبٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّامِيِّ: فَجَزَاءُ مِثْلِ بِالْإِضَافَةِ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي الْغَيْرِيَّةَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ لِمِثْلِ الْمَقْتُولِ لَا الْمَقْتُولِ، وَمِنْ قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ: فَجَزَاءً مِثْلَ عَلَى الْوَصْفِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ هُوَ الْمِثْلَ.
وَيَقُولُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْجَزَاءَ غَيْرُ الْمِثْلِ.
وَيَقُولُ الْمَدَنِيُّونَ وَالْمَكِّيُّونَ وَالشَّامِيُّونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْمِثْلُ؛ فَيَبْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى ظَاهِرِ قِرَاءَةِ قُرَّاءِ بَلَدِهِ.
وَقَدْ قَالَ لَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيُّ الزَّاهِدُ: إنَّ ابْنَ مَعْقِلٍ الْكَاتِبَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمَقْتُولِ لَا جَزَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ.
وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ جَزَاءَ الْمِثْلِ لَا جَزَاءَ الْمَقْتُولِ.
قَالَ: وَمَنْ أَضَافَ الْجَزَاءَ إلَى الْمِثْلِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى تَقْدِيرِ إقْحَامِ الْمِثْلِ؛ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: أَنَا أُكْرِمُ مِثْلَك؛ أَيْ أُكْرِمُك.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فِي سَرْدِ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ فِي الْبَابِ: وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ، لُبَابُهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ السُّدِّيُّ: فِي النَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ بَدَنَةٌ، وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ أَوْ الْإِبِلِ أَوْ الْأَرْوَى بَقَرَةٌ، وَفِي الْغَزَالِ وَالْأَرْنَبِ شَاةٌ، وَفِي الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ سَخْلَةٌ قَدْ أَكَلَتْ الْعُشْبَ، وَشَرِبَتْ الْمَاءَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ.
الثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ: «صَغِيرُ الصَّيْدِ وَكَبِيرُهُ سَوَاءٌ» لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ}، مُطْلَقًا، وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ.
الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «تُطْلَبُ صِفَةُ الصَّيْدِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ قُوِّمَتْ الدَّرَاهِمُ بِالْحِنْطَةِ، ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا».
الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «تُذْبَحُ عَنْ الظَّبْيِ شَاةٌ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ».
الْخَامِسُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: «الْمِثْلُ مَا كَانَ لَهُ قَرْنٌ كَوَعْلٍ وَأُيَّلٍ فَدَاهُ بِبَقَرَةٍ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرْنٌ كَالنَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ فَفِيهِ بَدَنَةٌ، وَمَا كَانَ مِنْ ظَبْيٍ فَمِنْ النَّعَمِ مِثْلُهُ، وَفِي الْأَرْنَبِ ثَنِيَّةٌ، وَمَا كَانَ مِنْ يَرْبُوعٍ فَفِيهِ جَمَلٌ صَغِيرٌ. فَإِنْ أَصَابَ فَرْخَ صَيْدٍ أَوْ بِيضَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، أَوْ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا».
السَّادِسُ: قَالَ النَّخَعِيُّ: «يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الْمَقْتُولَ بِقِيمَتِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، ثُمَّ يَشْتَرِي الْقَاتِلُ بِقِيمَتِهِ فِدَاءً مِنْ النَّعَمِ، ثُمَّ يُهْدِيه إلَى الْكَعْبَةِ».
السَّابِعُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: «أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ أَنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الَّذِي أَصَابَ، فَيَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُهُ مِنْ الطَّعَامِ؛ فَيُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا».
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: «إنْ قَوَّمَ الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَوَّمَهَا طَعَامًا أَجْزَأَهُ».
وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ قَالَ عَنْهُ: وَهُوَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخِيَارِ أَيْ ذَلِكَ فِعْلٌ أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الْفَرْقُ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ: فَصَحِيحٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْخِلْقَةِ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ مُتَفَاوِتَانِ فِيهَا، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى التَّقْوِيمِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الصَّغِيرِ فِيهِ وَالْكَبِيرِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا: لَوْ كَانَ الصَّيْدُ أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ أَوْ كَسِيرًا لَكَانَ الْمِثْلُ عَلَى صِفَتِهِ لِتَحَقُّقِ الْمِثْلِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُتْلِفَ فَوْقَ مَا أَتْلَفَ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وَأَمَّا تَرْتِيبُ الثَّلَاثَةِ الْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: فَاَلَّذِي اخْتَارَهُ عُلَمَاؤُنَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنْ يَكُونَ بِالْخِيَارِ فِيهَا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ «أَوْ» فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ.
وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ مَصْرُوفٌ إلَى الْحَكَمَيْنِ، فَمَا رَأَيَاهُ مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: فَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ قَدَّرَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِسْكِينًا بِيَوْمٍ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ تَقْدِيرِهِ تَعَالَى وَتُقَدَّسُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَقْوَالُ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ؛ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدِ الْجَلِيِّ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُقِيمُ الْمُتْلِفُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَقِيهَيْنِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَيَنْظُرَانِ فِيمَا أَصَابَ، وَيَحْكُمَانِ عَلَيْهِ بِمَا رَأَيَاهُ فِي ذَلِكَ، فَمَا حَكَمَا عَلَيْهِ لَزِمَهُ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ الْإِمَامُ حَاضِرًا أَوْ نَائِبَهُ أَنَّهُ يَكُونُ الْحُكْمُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا أَقَامَ حِينَئِذٍ الْمُتْلِفُ مَنْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّحْكِيمِ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْرُ فِيهِ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّهُ يَجُوزُ حُكْمُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ؛ وَذَلِكَ عِنْدِي صَحِيحٌ؛ إذْ يَتَعَذَّرُ أَمْرُهُ.